1. توطئة

    الأدب -ومثله الفن -مجال رحب وميدان فسيح تنوء به الدراسات المتخصصة المستفيضة، فضلاً عن البحوث المنهجية الدراسية، والأدب الأوروبي -خاصة- له قصته الطويلة وتاريخه السحيق، فوق أن معظم قضاياه كانت وستظل مثار نزاع، ومدار جدل شديد بين الباحثين والنقاد، وتلعب الاتجاهات السياسية والخلافات القومية والمذهبية دورها في ذلك.
    وإذا وافقنا الرأي القائل بأن الأدب هو (صورة الحياة وانعكاسها الواضح)، فما بالك بصورة حياة كحياة أوروبا حائرة مضطربة متهافتة متناقضة؟!!
    وهذه الأمور وغيرها - مما لا يخفى على المطلعين - تجعل البحث في هذا المجال محفوفاً بالمتاعب، وتستنفد جهد الباحث دون أن يستطيع أن يخرج بخلاصة متناسقة، تعبر على الأقل عن مدى جهده، إن لم تعط الصورة المطلوبة للموضوع.
    ومن الجلي أننا لا نبحث في الأدب من حيث هو أدب، وإنما ننظر إليه من خلال المنظار العام للموضوع، أي: من جهة علاقته بالدين، كما أننا مقيدون بالحجم الذي لا ينبغي أن يتجاوزه هذا الجانب من جوانب الحياة البشرية.
    ومراعاة ذلك تستدعي عرض الموضوع، وصياغته ضمن منهج خاص يتميز بأمور:
    1- التركيز على ماله صلة قوية بموضوع بحثنا، وعرضه بما يتناسب مع مقتضى الحال حجماً وأسلوباً.
    2- البعد -ما أمكن - على الخلافات حول المذاهب الأدبية، وتصنيف المدارس والانتماءات وتقويم المواد والشخصيات.
    3- البعد عن الغموض الذي يكتنف الدراسات العصرية، والذي سيظهر طرف منه - رغم إرادتنا - عند الحديث عن مدارس الضياع.
    وهذا وسنراعي كالعادة - التسلسل التاريخي في عرض المعالم الكبرى لعملية التحول إلى العلمانية التي بلغت ذروتها في الأدب والفن المعاصرين.
  2. أولاً: عصر النهضة الأوروبية .. الكلاسيكية الجديدة

    يقترن مسمى عصر النهضة الأوروبية بالحركة التي نشأت في إيطاليا -المركز الحضاري الإسلامي الثاني في أوروبا- واستهدفت بعث الآداب الإغريقية القديمة التي أطلق عليها اسم الآداب الإنسانية، تمييزاً لها عن كتابات رجال الكنيسة اللاهوتية!
    لقد فوجئت أوروبا الغارقة في سبات القرون المظلمة بنور الحضارة الإسلامية، فانبهرت به وأحست بواقعها المرير تحت ضغط الكنيسة التي جثمت على فكرها وشعورها وسلوكها، وأفقدتها الإحساس بإنسانيتها.
    وهذه اليقظة المفاجئة أوقعت النفسية الأوروبية في مأزق حرج، إذ تصادم في داخلها دافع ومانع قويان: الأول دافع الاستمتاع بنور الإسلام والدخول في فردوس حضارته حيث التوازن الفريد بين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد، ففي ظله تنطلق إنسانيتهم لتعبر عن ذاتها بعيداً عن أغلال الرهبانية وشطط الكنيسة.
    والآخر مانع التعصب المقيت والعداوة الحاقدة للإسلام وحضارته تلك التي عمقتها الحروب الصليبية، وبلغت أقصى مداها في المد الإسلامي الذي قام به المجاهدون الأتراك.
    وكان المانع أقوى من الدافع فخرجت أوروبا من ذلك التناقض النفسي بالبحث عن وسيلة تتيح لها الخلاص من براثن السلطة الكهنوتية الطاغية دون أن تتخلى عن تعصبها وعداوتها للإسلام وأهله، ولم تكن تلك الوسيلة سوى عملية اجترار الماضي ببعث تراثها الوثني الإغريقي والالتصاق به لاسيما جوانبه الشهوانية البهيمية!
    وهذا الاتجاه -بطبيعة الحال- أزعج الكنيسة، وإن كان أفضل لديها بكثير من احتمال إقبال أتباعها على الإسلام، وحاولت جهدها أن تسير الموجة لصالحها، وتسيطر على الوضع بحيث تبقى عقائدها وتصوراتها تصبغ الأدب وتوجهه، وتظل بصماتها بارزة في فنه المنحوت والمرسوم.
    ولكن عوامل التحرر والانطلاق كانت أقوى من حواجزها، واستطاع عصر النهضة أن يخطو خطوات كبيرة وجريئة للوصول إلى علمانية كاملة للأدب والفن، عليها قام الأدب العلماني الحديث وارتكز.
    ونستطيع أن نستعرض بعض ملامح الأدب والفن في ذلك العصر معتمدين على بحوث وتحليلات بعض المفكرين الأوروبيين، فنجد أن أبرزها ما يلي:
    1- بعث التراث الوثني الإغريقي: هذه هي الخطوة الأولى نحو الانفلات من سلطة الكنيسة، والانقضاض على فكر وتقاليد القرون الوسطى، فعن طريق إحياء الآداب الإغريقية استطاع أدباء وفنانو النهضة النفاذ إلى عالم آخر خارج من مألوف عصرهم ولا أثر فيه لشيء من اللاهوتيات، لقد نفذوا أول الأمر من كوة صغيرة، لكنها ظلت تتسع حتى انتقض بناء الكنيسة والتقاليد من أساسه، وطلعوا على الفكر الأوروبى بمفهومات جديدة ومعايير مغايرة سبقوا بها النهضة الفكرية العقلانية، وذلك ما يعده الفكر الحديث أعظم مآثر النهضة.
    يقول برنتن :
    إنه طالما كانت العصور الوسطى في الواقع عصوراً دينية، وطالماً أن عصر النهضة يعنى على الأقل محاولة العودة إلى الوثنية اللادينية إن لم نقل الزندقة، فإن فن العصور الوسطى يرتبط بالكنيسة، أما فن عصر النهضة فيتمتع بحرية بوهيمية، وهذه هي حقيقة الأمر، وكان النحاتون والرسامون في ذروة عصر النهضة يقلدون العري الكلاسيكى كما يقلدون كل شيء كلاسيكي آخر، فالفنان بدأ يقود شيئاً يشبه نوع الحياة وحشياً فاحشاً مجازفاً، ولكنه عظيم الأهمية، ومن المفروض أنه لا يزال يقوده.
    لقد كان فنانو عصر النهضة الذين كرسوا جل حياتهم الفنية لغرض جعل المعتقدات المسيحية واضحة تبدو في أجمل مظاهرها للعيان يستمرون في القيام بالأعمال التي ورثوها عن الرواد السابقين للعصور الوسطى، هذا وقد تحول الفن في العصور الحديثة إلى فن علماني تقريباً، حتى أن الفن الديني كاد يختفي أو بالأحرى أصبح في الدرجة الثانية استنتاجياً وتقليدياً.
    إن الكتاب الخياليين هم الفنانون القريبون من قلب الوضع الإنسانى نحو الحياة، إن بترارك ورابله وشكسبير وسرفانتس والرسامين والنحاتين والموسيقيين الذين لا نزال نعلم أسماءهم هم نوع من الرجال الذين ينشدون طريقاً وسطاً بين المسيحية التقليدية كما خلفتها العصور الوسطى، وبين العلمانية الحديثة التي يبدو أنها تقلع جذور السحر والسر من الكون!!
    كان هؤلاء الفنانون في تمرد مدرك كثيراً ضد التقليد المسيحي خلال العصور الوسطى، لقد أنكروا مستنداً، وبات عليهم - وهذا أكثر أهمية - أن يبحثوا بل يقيموا مستنداً آخر، فقبول هؤلاء العلماء المجرد لأي شيء كتبه قدماء اليونانيين والرومانيين لم يكتف به رجال الفكر، وككل شخص ألمَّ بكل ما له علاقة بالعقل عاد هؤلاء الفنانون إلى اليونانيين والرومانيين، وكانوا بذلك كالمهندسين المعماريين حيث أعادوا تجديد موادهم.
    2- الاهتمام بالحياة الدنيا والوجود الإنسانى فيها: وذلك الاهتمام نشأ رد فعل لتركيز الكنيسة على عالم الآخرة وحصر كل النشاط الفكري والفني لاتباعها في مجال الحديث عن الثالوث والقديسين والملائكة والمعجزات، وكبت المشاعر والأحاسيس الإنسانية أياً كانت ما لم تكن في حدود دائرتها اللاهوتية، ومن هنا أطلق على الحركة بكاملها وصف الإنسانية.
    وقد قام دانتي (ت:1321م) في هذا المجال بمثل ما قام به مكيافيللي في مجال السياسة، فقد خرج على الكنيسة خروجاً صريحاً، وناقض تقاليدها ومقاييسها، وابتداءً منه أخذ الأدب الأوربي يحل الإنسان شيئاً فشيئاً محل الإله، فالاهتمام بالإنسان الذي نبه إليه دانتي ومعاصروه كان المنطلق لمحاولة تأليه الإنسان وتصويره على أنه إله حقيقي، وهي المحاولة التي بدأت في القرن التاسع عشر، واكتملت على يد سارتر وأشياعه في هذا القرن مروراً بتأليه الطبيعة الذي دعا إليه عصر التنوير، يقول داونز:
    "يقف دانتي كما وقف صديقه ومعاصره المصور الرسام جيوتو على رأس حقبة جديدة في تطور الفكر البشري، ولما كان كلاهما فناناً عظيماً فإنهما عبرا أصدق تعبير عن ذلك الشيء الجديد الذي ربما كان يجيش في صدور الكثير من معاصريهم، ولكنهم لم يستطيعوا الإفصاح عنه كما أفصحا.
    وهذا الشيء الجديد هو الإنسانية، هو الاهتمام بشئون الإنسان في الحياة الدنيا، ونستطيع أن نتفهم خطورة هذا الجديد الذي يزاحم القديم إذا قارناه بالعقائد المسيطرة على أذهان الناس في ذلك العصر عن الحياة والكون، ومؤداها أن الحياة الدنيا ليست إلا تمهيداً لاستقبال الحياة الأخرى، وقد هيمن هذا الاعتقاد على الناس في القرون الوسطى جيلاً بعد جيل تحت سطوة الكنيسة وسيطرتها العاتية على جميع نواحي النشاط الإنساني، وجميع المؤسسات الاجتماعية، بينما كان علم العلماء كله يدور حول المبادئ الدينية والعقائد الكنسية".
    "ثم جاء عقب ذلك عصر الاستنارة، وهو أول تبدل جديد طرأ على الناس في نظرتهم للحياة، فاتجهوا إلى أحضان الطبيعة يسوحون منها أسرار الكون ووضعوا ثقتهم المطلقة في مقدرة العقل الإنساني".
    "وقد نادى بهذا نفر من عباقرة ذلك العصر،... كان مجالهم الفكري في ناحية الاهتمام بشئون الإنسان في هذه الدنيا وترك الاهتمام بشئون الآخرة".
    وأما جيوتو فكان فنان هذه النهضة كما كان دانتي شاعرها، فقد أخذ جيوتو يرسم على جدران كنائس مدينة (أسيزي) صوراً وأقاصيص لحياة القديس فرانسيس عرض بها رسوماً من الناس، والطبيعة والطير والحيوان والزهور من واقع الحقيقة والمشاهدة، وهو حدث جديد في الفن وخروج عن التقليد القديم في تصوير العذراء والطفل وتصوير القديسين.
    "إن ملحمة الكوميديا كانت حدثاً جديداً في الأدب، حدثاً ضخماً لم يسبق له مثيل، فليس إذن من العجب أن يدعوها الناس بلقب الإلهية، لأنهم شعروا عند ظهورها أن أدبا أوروبياً جديداً قد انبثق فجره".
    "إن الناس كانوا يعتقدون ما علمتهم الكنيسة إياه من أن كل إنسان يكفر بـالمسيحية جزاؤه جهنم، وأما من يؤمن بها فمآله إلى الجنة، وجاء دانتي فخرج على تلك العقيدة القديمة، وأقام موازين جديدة للعقاب والثواب على أساس من الأخلاق، وعندما ننظر اليوم إلى الوراء نجد شاعراً يوزع بالقسطاس العقاب والثواب بدلاً من أن يوزعها البابا، فإننا لا نرى في عمله شيئا خارقاً غير أنه بالقياس إلى عصره كان لا شك انقلاباً خطيراً".
    "وقد صدق الشاعر بوب عندما عبر عن فلسفة القرن التالي (18) بقوله: ''إن خير دراسة يقوم بها البشر هي دراستهم للإنسان'' وقد كان شكسبير قبله خير من قام بهذه الدراسة، والحق أن شكسبير يمثل أرقى ما بلغت إليه حركة النهضة الأوروبية بأجمعها، وهي في لبابها تتلخص في اكتشاف الجنس البشري لقيمته، وأهميته التي كانت قد ضاعت على مر العصور" .
    وجدير بالذكر أن دانتي في ملحمته قد أدخل البابوات كلهم قاع جهنم إلا باباً واحداً أدخله الجنة، ودلالة ذلك لا تخفى .
    3- العودة إلى الإباحية الرومانية: رد فعل للرهبانية والتزمُّت المغالي اللذين كانا يسيطران على الحياة الاجتماعية الأوروبية في ظل الكنيسة قام رواد النهضة بتجديد شباب الكلاسيكية، وبعث المذهب الأبيقوري في التمتع بضروب الملذات والانغماس في الشهوات الجسدية، ومن هنا أهمل أولئك أو كادوا جانب الآلهة وأساطيرها وصراعها من التراث الكلاسيكي الإغريقي والروماني، وانصب اهتمامهم على الجانب الإباحي، فليس مرد ذلك إلى قوة إيمانهم بالعقيدة المسيحية بقدر ما كان الرغبة في إشباع نزواتهم المكبوتة وميولهم العاطفية قبل أي شيء آخر.
    وهكذا كان عصر النهضة يتسم بطابع كلاسيكي خاص، يقدس الجسد ويعبد اللذة في وقت لا تزال الرهبانية فيه هي المثل الأعلى، ووجه زعماء ذلك العصر أنظار الناس إلى مثالب الرهبانية بحجة منافاتها للإنسانية، وهو الوصف الذي كانوا يتسترون به.
    يقول مؤلف تكوين العقل الحديث : ''الحقيقة أن هذا الاهتمام بالإنسانية عاش بصورة قوية واضحاً منذ العصور التي سبقت غزوة المسيحية للبرابرة، فالحياة التي صورها هوميروس في الملاحم الوثنية تعكس لنا الوجود الإنساني...، وجل ما استطاع التقليد المسيحى هو أن يشوه سمعتها، وقد انتشر خلال القسم المتأخر من القرون الوسطى تيار من الأغانى المبتذلة تمجد التمتع الصريح بالحياة وملذاتها، وكانت هذه الأغاني كثيرة التحرر مفرطة في وصف النواحي الحيوانية''.
    "على النحو التالي:
    نحن في تجوالنا مغتبطون مشرقون...
    نأكل حتى الشبع، نشرب حتى الثمالة...
    نمرح إلى الأبد، ننهل من الجحيم...
    تلتصق صدور بعضنا ببعضنا...".
    وحالما نشأ أدب علماني عامي فقد صدر نفس التمتع الوثني بخيرات الحياة الرفيع منها والوضيع، فالشعراء المغنون التروبادور حولوا الفروسية المسيحية إلى تمجيد للحب الإنساني، ومن الجدير بالملاحظة أن أكثر هذه القصائد صراحة وواقعية نشأت من الثقافة البرجوازية في المدن، فالأقاصيص الفرنسية البذيئة وصفت بصورة حاذقة التمتع بضروب الحياة كما كان يحصل في الواقع، وتميزت بشغف خاص بسرد قصص الماكرين الأوغاد ومثالب الكهنة، كما نجد ذلك في قصائد شوسر، ومعرض صور الأوغاد التي رسمها بوكاشيو.
    "والحقيقة أنه ابتداءً من القرن الثاني عشر فما بعده زاد احتدام هذا الموقف وهذه الاهتمامات، ويتحدث الفن عن نفس القصة التي يتحدث عنها الأدب، فالعذراوات والقديسون والأقدمون، يتحولون إلى رسوم واقعية، وتنقلب صور العذراء التقليدية البيزنطية إلى فتيات قرويات إيطاليات.
    ولكن أهم ما أخذ العلماء الإنسانيون عن الإغريق كان التمتع السعيد الطبيعي السليم بخيرات الحياة في حضارة رفيعة.
    ووجدوا هنا أن اللذات غير الضارة والميول الطبيعية تعتبر الوسائل التي بواسطتها ينظم العقل حياة صالحة، وأنها ليست من الشيطان، فلا داعي إذن إلى اعتبارها ذنباً إما أن يقهر بعون إلهي أو ينهل منه في خجل وشعور بالعار...".
    "أدى كل هذا بالطبع إلى ثورة على الأخلاق المسيحية، فبدلاً من المحبة حل الفرح باستعمال الإنسان للقوى التي وهبه الله إياها، وحلت الحرية والمسئولية بتوجيه العقل محل الخضوع لإرادة الله، وأخذ البحث الفكري الجريء يحتل بالتدريج مكان الإيمان.
    وانفجرت العاصفة بكامل عنفها على رأس الراهب، ذلك أن فشل الراهب في تحقيق الطهارة التي بشر بها جعلت أدب القرون الوسطى منذ ولادته يعطي لزلات الراهب صورة أكثر بشاعة، وصورته بأنه أكثر حيوانية من سواه، وجاء أحذق الإيطاليين وأجرؤهم إطلاقاً لورنزفالا...، فأنكر في كتابه حياة الرهبانية كل قيمة للتقشف والقداسة وذهب أبعد من ذلك في رسالته عن اللذة التي يتفق فيها مع المذهب الأبيقوري، فأعلن أن المرأة المتزوجة بل المستهترة أيضا هي أفضل من الراهبة، لأنها تسعد الرجل أما الراهبة فهى تعيش في تبتل لا فائدة منه، وينعت موت الإنسان في سبيل بلاده أو من أجل أي مثل أعلى بأنه لا يقره العقل".
    "هذا التحول المفاجئ يوحي في بعض الأحيان بالرجوع إلى ما يشبه الوثنية الخالصة، ويمثل الفن الإيطالي أحسن تمثيل المزج الكامل بين المسيحية والوثنية، فلو ألقينا نظرة على بعض الرسوم الشهيرة هل نستطيع التفريق بين الله والملاك والعذراء والصبي وكيوبيد والقديس.....".
    ثار الإيطاليون على الأخلاق المسيحية واستبدلوا بها مجرد التمتع بالملايين من أشكال الجمال، لكن الشعوب الشمالية وجدت في الحياة أكثر من الجمال، وقد مثل هذه الروح فيما كتب رابليه الكبير...
    وتتجسم روح ثورة النهضة في مقطع يطلب منا رابليه فيه أن نهرب من أولئك الرعاع ذوي العقول الزائفة الماكرين والقديسين المزورين الوقوري الهيئة المرائين مدعي الإيمان، الإخوان الخشنين الرهبان الذين يلبسون النعال... اهرب من هؤلاء الرجال عليك بكراهيتهم واحتقارهم قدر ما أكرههم أنا، وإنني لأقسم لك أنك إن فعلت فستجد نفسك أفضل حالاً.
    هكذا كان عصر النهضة ثورة على المسيحية التقليدية وإعلاناً للعودة إلى الوثنية، وهذه وإن كانت في الواقع عملية سلبية إلا أنها خطوة لا بد منها لكل حركة جديدة، فمن الطبيعي أن تنصب أنظار رواد النهضة إلى هدم كيان الواقع الذي خضعت له أوروبا ألف عام قبل أن يفكروا في ماهية الواقع الجديد.
  3. ثانياً: العصر الحديث

    (أ) الرومانسية:
    لسنا في حاجة إلى إعادة القول بأن: حياة أوروبا هي عبارة عن خط بياني متذبذب تحكمه ردود الفعل المتناقضة، فقد أصبح ذلك حقيقة مقررة بعد أن رأينا شواهده في كل مجال، وهنا في مجال الأدب نلمس تلك الحقيقة بوضوح:
    فالغبطة الكلاسيكية لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما جرت عليها سنة أوروبا في الارتداد، وإذا كان أعظم ايجابياتها هو الاهتمام بالإنسانية وإيقاظ العقل الأوروبي المطمور ليأخذ مركز التوجيه في الحياة، فإنه حتى هاتان لم تستقرا دون تطوير أو تغيير.
    وكان التطوير من نصيب الأولى، أما الأخرى فكان نصيبها التغيير بل الثورة، ومن هذين انبثق المذهب الجديد الذي عرف بـالرومانسية، والذي يقترن تاريخياً بمسمى عصر التنوير.
    أولا - تطور النزعة الإنسانية:
    لعل أصدق تعبير عن هذا التطور هو ما قاله مؤلفو كتاب ثلاثة قرون من الأدب: ''إن القرن الثامن عشر لم يخصص للدين، وإنما خصص للعلم والسياسة، فلم يعد زعماؤه قسساً مسيحيين، بل فلاسفة طبيعيين...، لقد كان التغير عميقاً، ومن نواحٍ عدة كان القديم والجديد على طرفي نقيض، فالتطلع إلى ما وراء أشياء هذا العالم قد تراجع أمام التطلع إلى أشياء هذا العالم، لقد أصبح القديس الدائر حول محور الله عالماً إنسانياً محوره الإنسان، والحياة التي كانت تسير بهدي الكتاب المقدس، ولم يعد العالم مكاناً حيث العناية الإلهية دائمة الحضور والفعل تضبط وتدير كل ما يحدث حتى التافه منه (!) فلعين العقل صار العالم الآن جزءاً من آلة الكون التي وقد أخذت تدور مرة استمرت في الدوران لنفسها وبنفسها(!) حتى الله ذاته لم يعد شخصياً أباً يحب ويرهب، بل أصبح قوة عاقلة سحيقة البعد لا شخصية، علة أولى أدارت الآلة وتركتها تعمل بنظام كامل وفق نواميس رياضية وفيزيائية، ويسوع ابن الله أصبح يسوع ابن الإنسان(؟!).
    (لم يعد موضوع البحث للجنس البشري هو الله، بل الإنسان).
    (وتحسين حال الإنسان يمكن توقعها، لا عن طريق الدين بقدر ما يمكن توقعها عن طريق العلم والتربية والسياسة التي بها يستطاع إصلاح المجتمع).
    وهكذا أصبحت ثورة عصر النهضة المبهمة تملك منهجاً عقلياً ومساراً محدداً، وبذلك تواجهنا صورة وثنية جديدة أكثر وضوحاً.
    وهذا هو المميز الأول للرومانسية، وعنه نشأ تأكيدها على سيادة القلب وحياة النفس الداخلية بمعنى حصر كل الاهتمامات في حدود الكائن البشري، بل في أعماق النفس الفردية، وينتقد الرومانسيون الأدب الكلاسيكى بأنه كان الهدف منه تصوير البشر، لا كما هم فعلياً ولكن كما هم مثالياً، مما جعل الأدب تقليداً وليس تعبيراً، ولذلك فقد أهمل الرومانسيون الملاحم وحوروا المسرحيات، ونحوا بالأدب منحىً شخصياً داخلياً، فالكتابة الفنية تأتى في صورة اعترافات أو سيرة ذاتية، والشعر يصبح غنائياً عاطفياً يعبر عن المعاني الوجدانية للبشر، كالعشق والفرح والألم، ويبتغى - بالدرجة الأولى - إثارة السامع وامتاعه.
    وكان من أبرز العوامل الاجتماعية المهيأة لذلك: طابع الفروسية التي كانت في ريعان شبابها، إذ احتضنت الرومانسية حتى اندمجت في كيانها، وأصبح الرومانسيون اللسان المعبر عن الحياة الفروسية بخصائصها وفضائلها.
    وقد أفصح بعض زعماء المذهب عن علاقة رد الفعل القائمة بين الاتجاه الرومانسي والمسيحية، فـالمسيحية كما عرفوها تكبت الإنسان وتصيبه بالميلانخوليا، ومن ثم فهي مسئولة عما أصاب الإنسانية من الانطواء والكآبة، وقد عزا الناقد الرومانسي الألماني شليجل الكآبة إلى الدين المسيحي الذي جعل الإنسان منفياً يشتاق إلى وطنه البعيد
    وانطلاقاً من ذلك وتمشياً مع التركيز على التعبير عن الذات جهد أولئك في أن يحولوا الشوق الصوفي المسيحي الذي كان يتجه إلى الله أو يسوع إلى حب عذري أو إباحي يعبر عنه في أسلوب غنائي، ويتجه إلى الجمال الخارجي للمحبوب الذي كان في الغالب امرأة وأحياناً الطبيعة.
    ثانياً: الثورة على العقلانية التي سادت القرنين (17-18) :
    سبق أن عرفنا كيف فاجأ عصر التنوير أوروبا المسيحية بتلك الكلمتين المقدستين لديه (الطبيعة والعقل)، وجعل الأولى رمزاً خفياً للوثنية يحل محل اسم الله في المسيحية، والثانية وسيلة إلى فهم الإله الجديد بدلاً من وسيلة المسيحية الوحي.
    ولقد وثق الهاربون من طغيان الكنيسة العلمي في مقدرة العقل وثوقاً أعمى، وكان لكشف كوبرنيكس، وقوانين جاليلو ونيوتن ومبادئ بيكون وديكارت العقلية أعظم الأثر في تمجيد العقل بل عبادته، ولما كان جل همم إغاظة الكنيسة والانتقام من عبوديتها فقد اشتطوا وغلوا في ذلك إلى أبعد الحدود.
    لكنهم ما كادوا يلتقطون أنفاسهم وتستقر أعصابهم من مطاردة الكنيسة حتى بدأ بعضهم يبحث عما إذا كان إله العقل جديراً بما أعطي من قيمة وتقديس أم لا؟
    وكانت النتيجة مرة، وهي أن العقل عاجز حقاً عن تفسير الطبيعة، وإذ كان كذلك فهو أعجز عن تفسير النفس الإنسانية وفهمها.
    وتساءل أولئك: أليس من طريق للثورة على الكنيسة والوصول إلى فهم الطبيعة والإنسانية إلا طريق العقل وحده؟
    واستطاعوا أن يكتشفوا طريقاً آخر أرحب من العقلانية بمنطقها الجامد وقوالبها المحددة، وأقوى من العقل اختراقاً للأسرار وتبديداً للغموض، ألا وهي الشعور العاطفي، ذلك الشعور الذي يمتطي آفاق الخيال الواسعة، فيسبر أغوار الذات الإنسانية العميقة، ويستجلي جمال الطبيعة، وهكذا أخذ الرومانسيون يرتفعون رويداً رويداً عن الأرض ويحلقون في الفضاء السحيق، ولكن إلى غير الله ومن غير طريق المسيحية.
    كانوا يتحدثون عن الحب، ويبحثون عن الجمال ويفلسفونهما في أساليب ضبابية كثيفة، كما كانوا يتحدثون عن الشياطين والملائكة والسحر والعوالم المجهولة في محاولات دائبة ويائسة لاستكناه أسرار الكون وتحقيق السعادة الداخلية.
    وأصبحوا ينقبون عن الحقائق الأبدية لا في الكتاب المقدس ولا في المؤلفات العقلية، ولكن في صفحة الطبيعة الخلابة ومناظرها الحالمة، وكل هذا أفضى بهم بالطبع إلى مثالية مغرقة جوفاء أعظم في بعض جوانبها من تلك التي انتقدوها على الكلاسيكيين.
    ونتيجة أخرى مهمة هي أن الرومانسية باعتقادها أن غاية النشوة وقمة السعادة تكمن في أن يطلق الإنسان عنان نفسه لتذوب في حب الطبيعة وتفنى فيها كما يفني الصوفي في معبوده، ولذا أحلت الطبيعة محل الله والشعور محل العقل -بهذا الاعتقاد- تكشفت عن صورة وثنية جديدة (وكل الكلام الجميل المعسول الذي قيل لتبرير هذه الوثنية: أن الطبيعة محراب الله وأن الجمال صورة الله، إننا نعبد الله في خلقه... إلى آخر هذه الجمل الرومانتيكية البراقة، كل هذا الكلام لا يستطيع أن يخفي تلك الروح الوثنية الغارقة في الوثنية التي تعبد المحسوس في حقيقة الأمر، لأنها تعجز عن إدراك الله بالروح، والروح غنية عن المحسوسات)
    ولقد عبر روسو -رائد الرومانسية- عن ذلك أوضح تعبير في راهب سافوي الذي هو صورة لذاته، إنه راهب بالفعل، ولكنه يختلف جذرياً عن رهبان الكنيسة، فهو راهب في صومعة الطبيعة يسبح بحمدها ويقدس لها.
    وفي كتابات روسو (الاعترافات مثلاً) وقصائد بوب (مقال عن الإنسان) وجوته فاوست، وكذلك كيتس ولامارتين وأضرابهم نماذج واضحة للمذهب الرومانسى في أوج مجده.
    ولما كان أعظم أثر للرومانسية ينحصر في رد الفعل الذي نجم عنها بولادة الأدب الواقعي اللاديني الحديث، فلن نفيض في الحديث عنها أكثر من هذا.
    (ب) الواقعية:
    كانت الرومانسية بخيالها الجانح صورة صادقة لعصرها عصر الهروب، الهروب من طغيان الكنيسة، الهروب من نير الإقطاع البغيض، الهروب من تقاليد الماضي المرير، وجاءت الثورتان الفرنسية والصناعية، وجاءت الحروب الدينية والقومية، وتغيرت ملامح الحياة تغيراً بارزاً، فكان لا بد لصورة الحياة الأدبية أن تتغير كذلك.
    كانت أوروبا الكلاسيكية والرومانسية قد عادت كما أسلفنا إلى الوثنية، وعبدت الإنسان أو الطبيعة بطريقتها الخاصة، أما الآن فالصورة تتخذ مظهراً أخر فلم ينحصر الاهتمام بالإنسان دون الإله فحسب، بل اقتصر - من الإنسان- على وضعه الدنيوي ومكانته الاجتماعية، على واقعه المعيشي وجزء معين من نزواته ورغباته والظروف المحيطة به التي يتأثر بها سلباً وإيجاباً.
    هذا التحول من الإنسانية بمفهومها الكلي عند الكلاسيكيين، ومن الطبيعة والمثالية الفردية عند الرومانسيين إلى الإنسان العادي المشخص سيتخذ سريعاً صورة وثنية جديدة تعبد الإنسان وتحل محله الإله.
    وكعادة أوروبا -لا تعرف الطريق السوي ولا الموقف الوسط- سقطت سقوطاً مفاجئاً من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط.
    كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية في مواجهة تحدي الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه، فجاءت الواقعية لتصوره في أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط في لحظات الضعف القاتلة.
    كان يصارع الأقدار ويحاول إخضاع الطبيعة، فإذا به ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة.
    لقد أخذ الواقعيون على الرومانسيين مآخذ -ليست بعيدة عن الحقيقة- فهم ينكرون عليهم إهمالهم لشئون الجماهير، وإغفالهم لحقوق الإنسان المهدرة، وسكوتهم عن المظالم التي يعج بها المجتمع في حين كانوا محلقين بأحلامهم بحثاً عن الجمال والروعة والمثالية، جاعلين هدفهم الأسمى الفناء في الطبيعة.
    بل قالوا -والتاريخ يسعفهم بشيء من الأدلة- إن الرومانسيين كانوا من الطبقات الأرستقراطية أو من المقربين إليها، وكانوا شعراء البلاطات وندماء الأباطرة، فهم وأدبهم جزء من ذلك الواقع الظالم الذي يجب رفضه إلى الأبد.
    وأخذ عليها أنها في كل أعمالها الفنية كانت تقتصر على تصوير الإنسان المثالي واللحظة المثالية والمنظر المثالي، متناسية أن البشر المثاليين هم قلة نادرة في الناس، ومتخلية تماماً عن الإنسان السوي والحياة العادية بكل مشاكلها ومظاهرها إلى آخره، ما أخذوا وما نقدوا، فبالاعتماد على مثل هذه المبررات رفض أولئك الرومانسية وعابوا فنانيها، لكنهم لم يرفضوها -بالطبع- لأنها حركة وثنية متسترة، بل إن المتأمل لا يجد في تلك المبررات العديدة ما يشير إلى ذلك.
    ولذلك فبديهي أن ينتقل الفن من انحراف إلى انحراف، ومن وثنية إلى أخرى شاء ذلك الواقعيون أم أبوا، ولعل في تتبعنا لخطوات الواقعية الأولى وملامحها ما يلقي الضوء على ما نقول.
    الأهداف الأولى للحركة الواقعية:
    شغل الواقعيون الأوائل أنفسهم من خلال رواياتهم التي انتزعت مكان الصدارة من الشعر الرومانسي بنقد ومناقشة أحوال الفرد والمجتمع، وهذا ليس انحرافاً - بالطبع - بل هو أمر مطلوب، ولكن الانحراف جاء من جهة الموقف الذي اتخذه أولئك من الدين والأخلاق والتقاليد أثناء تصويرهم للمشاكل الإنسانية الواقعية - هذا إذا سلمنا أن هدفهم هو تصوير المشكلة وعرضها، وليس شيئاً في أنفسهم يريدون تقديمه من خلال ذلك التصوير، وهذا الموقف الذي يضعنا على أول الطريق إلى الوثنية المعاصرة - تركز في قضيتين متقاربتين :
    الأولى - الثورة على التقاليد الإقطاعية والمسيحية، وذلك قد لا يعدو في الحقيقة أن يكون جزءاً من الثورة على طغيان الكنيسة وظلم الإقطاع يتخذ مظهراً مغايراً، وإذا كان بلزاك (1851) هو أحد الرواد للواقعية، فلنقتطف شاهداً على ما نقول من إحدى رواياته؛ وهو محاورة بين قسيس عجوز وامرأة لم توفق في حياتها الزوجية: ''قال العجوز: على أي حال يا سيدتي الماركيزة، هل فكرت قليلاً في كتل الآلام البشرية؟ هل رفعت عينيك نحو السماء؟
    قالت: لا يا سيدي إذ تثقل القوانين الاجتماعية بشدة على قلبي وتمزقه لي تمزيقاً، حتى لا أستطيع الارتفاع بنفسي إلى السموات، ولعل القوانين ليست في قسوة آداب المجتمع. أوه! المجتمع!
    - علينا يا سيدتي: أن نطيع هذه وتلك، فالقانون هو الكلمة، والآداب هي أفعال المجتمع.
    عادت تقول الماركيزة مبدية حركة اشمئزاز: طاعة المجتمع؟ هيه! يا سيدي: إن شرورنا جميعاً تنشأ عنه، لم يضع الله أي قانون للشقاء، ولكن عندما تجمع الناس بعضهم مع بعض أفسدوا عمله، ونحن (نحن النساء) لقد عاملتنا المدنية بأسوأ مما عاملتنا الطبيعة به، فالطبيعة تفرض علينا الآلام البدنية التي لم تخففوها في حين أضافت المدنية المشاعر التي تخونونها باستمرار، إذ تخنق الطبيعة الكائنات الضعيفة على حين تحكمون عليها أنتم بأن تعيش كي تقوموا بتسليمها إلى شقاء دائم، ويؤدي الزواج - وهو نظام يرتكن إليه المجتمع - إلى إشعارنا نحن وحدنا بأثقاله، فللرجل الحرية، وللمرأة الواجبات، علينا أن نهبكم حياتنا بأكملها، وليس عليكم من حياتكم نحونا إلا لحظات نادرة، ثم إن الرجل يختار هناك حيث نرضخ نحن عن عمى، أوه! يا سيدى لعلي أستطيع أن أقول لك كل شيء، فالزواج على نحو ما يطبق اليوم يبدو لي دعارة مشروعة منه تنبع كل آلامنا، وبعد أخذ ورد تعود الماركيزة فتقول للقسيس: ''.. إنكم تفضحون المخلوقات المسكينة التي تبيع نفسها في مقابل بعض الدراهم لرجل عابر، فالجوع والحاجة تحللان هذه العشرة العابرة، هذا في حين يغفر المجتمع ويشجع الزيجات المباشرة برغم بشاعتها بين فتاة ساذجة ورجل لم تره أكثر من ثلاثة أشهر، فتباع طول حياتها، لا شك أن الثمن مرتفع إذا كنتم عندما تسمحون لها بالمكافأة على آلامها تقومون بتشريفها، ولكن لا... إذ أن المجتمع يفتري على أفضل الفاضلات من بيننا! ذلك مصيرنا في وضوح من كلا وجهيه: الدعارة العامة والخزي والفضيحة، أو الدعارة الخفية والشقاء'' .
    والآن نستطيع أن نحكم بما إذا كانت واقعية بلزاك تهدف إلى تصوير مأساة بعض النساء أم تهدف إلى تصوير إفلاس رجل الدين وتهافت وفظاعة التقاليد، وليس غريباً بعد ذلك أن تصر معظم الروايات الواقعية على تصوير المجتمع في صورة العدو اللدود الذي يكبل الفرد ويحد حريته وتطلعاته.
    الثانية : الهجوم المباشر على حقائق الدين: منذ بدء حركة النهضة نجد روح الكراهية للدين من قبل الأدباء والفنانين واضحة في إنتاجهم الشعري والفنى، إلا أن هذه الروح كانت تعبر عن نفسها من خلال الهجوم على رجال الدين، وفي القليل تجرأت على الهجوم المباشر على حقائقه، من ذلك ما رأينا في كوميديا دانتي وما سبق من قول رابليه، وكذلك هناك مسرحيتا موليير المتزمت وطرطوف، والأخيرة تصور نفاق رجل الدين وجشعه ومثلها قصة صاحب الطاحون لـشوسر، يقول مؤلف قصة الفكر الغربي : ''يرد كثيراً في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع والقسيس الفاسق والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا، وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين، ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام، ولم يقصد إلى تحدى بناء المسيحية الفلسفي والديني أي: نظرتها الشاملة إلى الكون، كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين...'' .
    تم تطور الأمر أكثر من ذلك في كتابات عصر التنوير إلا أن رجل الدين - بمفاسده - لا يزال هو المنفذ إلى مهاجمة الدين، ويظهر ذلك جلياً في قصة الراهبة لـديدرو زعيم الموسوعيين الفرنسيين التي مثلت في الستينات بـباريس تحت اسم المتدينة بناءً على اعتراض الكنيسة .
    وجاءت الواقعية فاتخذت دور الهجوم المباشر على حقائق الدين مقرونة بالتشهير برجاله أو منفردة عنها، وبدأ ذلك مبكراً وصريحاً، وها هو ذا جوستاف فلوبير يعطي الشاهد على ذلك في روايته مدام بوفاري التي حوكم بسببها آنذاك:
    ففي أحد فصولها: تسأل ربة النزل القسيس عما إذا كان يريد جرعة من النبيذ فيتعذر وينصرف، وما أن اطمأن الصيدلي إلى أنه لم يعد يسمع وقع قدمي القس، حتى أبدى رأيه في مسلكه فوصفه بأنه ناب، فقد بدأ رفضه أبغض ألوان الرياء، إذ أن القساوسة يحتسون الخمر في الخفاء، ويحاولون أن يستعيدوا الأيام التي كانت الكنيسة تتقاضى فيها الضرائب من رعاياها.
    صاحبة النزل: إنه رغم قولك يستطيع أن يطوي أربعة من أمثالك على ركبتيه، لقد ساعد رجالنا على تخزين العشب الجاف.
    الصيدلى: مرحى، أرسلو بناتكم إذن ليعترفن أمام رجال من هذا الصنف(!)، لو كنت في مركز الحكم لأمرت بأن يفصد القساوسة في كل شهر، في سبيل مصلحة البوليس والأخلاق.
    - كف عن هذا يا مسيو هوميه، فأنت كافر لا دين لك.
    - بل لي دين، ديني الخاص، وإن لدي من التقوى ما يفوق ما لدى هؤلاء.. رغم نفاقهم ودجلهم، إنني على العكس أعبد الله، أؤمن بالكائن الأعلى، أؤمن بوجود خالق كيفما يكن كنهه، ولكني في غير حاجة لأن أذهب إلى الكنيسة... لأسمن من مالي رجالاً لا يصلحون لشيء، إن المرء ليستطيع أن يهتدي إلى الله في غابة أو في حقل أو حتى بمجرد تأمل قبة الأثير.. إن إلهى هو إله سقراط وفرنكلين وفولتير وبيرانجيه، إنني من أنصار الإيمان الذي دعا إليه قس سافوا (روسو)، ومن المؤمنين بمبادئ ثورة (1789م) الخالدة، ولا أستطيع أن أعبد إلهاً مزعوماً يسير في حديقته، وعصاه في يده، ويودع أصدقاءه أجواف الحيتان، ويموت صارخاً، ثم يبعث بعد ثلاثة أيام، هذه جميعاً في حد ذاتها سخافات تناقض تماماً كل قوانين الطبيعة.
    وفي هذا ما يوضح لنا ضمناً كيف أن القسس ظلوا دائماً متشبثين بجهل صلد لا يلين، يحاولون أن يدفنوا البشر معهم في جوفه .
    على مثل هذا نمت الحركة الواقعية وترعرعت مصورة ومواكبة الحياة الأوروبية التي أخذت تتحلل من عقائد المسيحية الكنسية وأخلاقها شيئاً فشيئاً.
  4. ثالثاً: الأدب المعاصر من الواقعية إلى اللامعقول

    إن أي باحث في الأدب المعاصر لا بد أن يرى بوضوح مؤثرات جديدة وقوية أدت به إلى الحال الراهنة، وميزته عن المدارس والاتجاهات السابقة.
    وليس ضرورياً -بالطبع- أن تكون هذه المؤثرات أدبية محضة، فما دام الأدب هو صورة الحياة فإن كل التحولات التي طرأت على الحياة الأوروبية سوف يصحبها تحول مماثل في الفن والأدب، ويرى أحد النقاد الغربيين أن هناك أربعة من المفكرين يعود إليهم الفضل في الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة، هم داروين، وماركس، وفريزر، وفرويد.
    والحق أن لـداروين وفرويد خاصة أعظم الأثر في ذلك:
    أما الداروينية فإن الفلسفة الحيوانية التي بنيت عليها ولدت في النفسية الأوروبية شعورين عميقين لا يمكن للأدب الأوروبي مهما تعددت مدارسه ومناهجه إلا أن يكون تعبيراً عن أحدهما:
    1- حيوانية الإنسان التي تلغي المشاعر الروحية تماماً، وتجعل الكائن البشري كتلة من اللحم كأي حيوان آخر، لا هم له إلا إرواء غرائزه البهيمية والحصول على أكبر قسط من المتاع الجسدي المحض.
    2- والشعور بتفاهة الحياة وحقارتها، ونفي أية غاية سامية لوجودها، وهو الشعور الذي عبرت عنه مدارس الضياع المختلفة تحت أسماء وشعارات شتى.
    وأما الفرويدية فقد عمقت الاتجاه الحيواني موصلة إياه إلى الحضيض، وصاغته في فلسفة نظرية منمقة تجعل الوصال الجنسي هو الغاية والوسيلة، وهو محور الحياة ومحور البحث ومناط التفكير وعلة العلل.
    وعمقت كذلك الشعور بالضياع والحيرة، فقد تركزت فلسفتها الجنسية حول الجوانب المجهولة - إن لم نقل المختلفة - كالعقل الباطن واللاوعي واللاشعور والأنا المثالية إلخ، وكأنها بذلك قدمت العوض المعاكس للإيمان والإحساس الروحي.
    وهناك غير ما سبق عوامل ومؤثرات كثيرة:
    فهناك الحربان العالميتان، وهما الكارثة التي حطمت القيم والأعراف والقوانين، وأذهلت بفظائعها المروعة عقول البشر، ولا يزال التهديد الذري واحتمال نشوب حرب ثالثة يسيطر على مخيلة الناس ويؤرق شعورهم.
    وهناك التفسخ الاجتماعي، حيث الأسرة محطمة، والمشاعر النبيلة مفقودة، والتنافس الضاري على أشده، مما جعل الإنسان يعيش في دوامة رهيبة من القلق لا يجد موطئ قدم تسكن نفسه إليه منذ ولادته حتى مماته.
    وهناك -أيضاً- النظريات العلمية الجديدة لا سيما النسبية ودورها يتجلى في أنها أفقدت الناس قيمة الأحكام المطلقة والإيمان والثقة في أية أسس ثابتة وعامة، ثم إنها تستعمل في بحوثها عن الكون والإنسان أرقاماً مذهلة يعجز العقل عن تصورها، وتتكلم بلغة محيرة مربكة تجعل المرء فريسة تناقض حاد بين إيمانه الوثيق بعلميتها وصدقها وبين عجزه عن إدراك مدلولاتها وتفسير معمياتها.
    وهناك الوسائل الفنية الجديدة، كالسينما والتليفزيون والصحافة المتطورة ودور النشر الكبيرة، تلك التي جعلت تعميم المادة الأدبية وذيوعها أمراً ميسوراً للغاية وخلقت جواً من التنافس بين المؤلفين والمنتجين والرسامين:
    بهذه المؤثرات جميعاً تأثر الأدب المعاصر وانفصل بالتالي عن الدين انفصالاً حاسماً ومهما قيل في تعداد مدارسه ومذاهبه، فإنه يتذبذب بين اتجاهين رئيسين هما: الإباحية والضياع، ويطلق النقاد على الأدب المعاصر في الجملة مسمى اللامعقول، وهو إطلاق له ما يبرره لاسيما في مدارس الضياع، ولا يرون أي تناقض بين ذلك وبين وصفه بأنه أدب واقعي، فإن واقعية القرن العشرين تتجلى في لا معقوليته.
    والواقع أن الارتداد من الواقعية إلى اللامعقول يشبه الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية مع اختلاف صوري فقط، على أن رباط الوثنية يظل هو الرباط المشترك بين الجميع.
    أولاً : الاتجاه الإباحي:
    في كل مراحل التاريخ الأدبي الأوروبي لم ينفك الفن عن الإباحية، إلا أن صورها كانت تختلف وتسير متطورة ولكن إلى أسفل، وما أصدق قول برنتن:
    إن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريباً في ثقافتنا الغربية فالأغاني البذيئة والمسرحيات الوضعية في عصر النهضة تعقبها عبادة اللذة والجمال في الرومانسية، ثم تصبح الدعوة صريحة إلى الفجور والفاحشة في الأدب الواقعي، وتظل صورتها تكبر وتسفل حتى تصل إلى الأدب المكشوف.
    وبذلك بعدت الشقة جداً بين رهبانية الكنيسة والفن، وصار بينهما هوة لا قرار لها، وإذا عرفنا أنه ما تزال نسبة تمثال افروديت إلهة الحب! عند الإغريق هي المقياس لأجساد ممثلات هوليود، فلن يخفى علينا ارتكاس هذا الاتجاه إلى الوثنية.
    ولنبدأ بالطريق من أوله -متجاوزين عصر النهضة- لنجد تلك المجموعة من الأدباء في العصر الحديث الذين كرسوا فنهم وحياتهم للإباحية.
    فهناك الفريددي موسيه شاعر الليالي الذي كان أبيقورياً بأوسع معاني الكلمة، ومعاصروه أمثال بروبسبير صاحب قصة كولومبيا وألكسندر دوماس الكبير والصغير، والأخير مشهور بقصة غادة الكاميليا وفلوبير صاحب مدام بوفاري ومعهم الكاتبة العربيدة جورج ساند صاحبة ليليا وأنديانا وينبغي ألا ننسى ستندال صاحب الأسود والأحمر وأوسكار وايلد.

    وكل أدب هؤلاء محصور في تمجيد الرذيلة وتبرير أعمال العاهرات والإشفاق عليهن، ودخل هذا الاتجاه مرحلة أتم بالمدرسة الطبيعية التي يتزعمها الكاتب اليهودي إميل زولا صاحب الأرض والبهيمة وغيرها، وهي مدرسة إباحية متخصصة.
    وعن هذا الاتجاه يقول أحد عظماء الأدب الأوروبى تولستوي سنة 1898:
    أصبح المقياس الوحيد للفن الجيد والفن الرديء هو اللذة الشخصية، فالخير هو ما يبعث اللذة في نفوسهم وهذا هو الجميل، وبذا ارتدوا إلى تصور الإغريق البدائيين الذين أدانهم أفلاطون، وطبقاً لهذا الفهم في الحياة تكونت نظرية في الفن ويقول:
    ويقول: ''إننا نشبه الفن المعاصر - مع غرابة هذا التشبيه - بامرأة تبيع جسدها لإرضاء الذين يبتغون اللذة بدلاً من أن تجعله مستودعاً للأمومة، فالفن المعاصر يشبه العاهر في أدق التفاصيل، فهو مثلها ليس وقفاً على عصر معين، وهو مثلها مبهرج، وهو مثلها قابل للبيع دائماً، وهو مثلها كله إغراء وكله هدم'' .
    ثم جاء فرويد، وجاءت الحرب الأولى، فاكتسب هذا الاتجاه قوة، واستشرت رذائله في الأوساط العامة وانهال الإقبال على إنتاجه الرخيص، ووجدها الهدامون والمتكسبون فرصةً لنفث سمومهم واستغلال مشاعر الناس واللعب بعواطفهم وإثارة غرائزهم، ويبرز هنا اسم ديفيد هربرت لورانس 1930، الذي كتب عدة روايات منها: أبناء وعشاق وعشيق ليدي تشارلي والأخيرة أثارت ضجة كبرى في إنجلترا بسبب جرأتها المتناهية في تصوير العلاقات الجنسية ولم تنشر كاملة إلا مع بداية الستينات.
    وبعده طلع ولسن بـمذكرات مقاطعة هيكث سنة 1946 التي صادرتها محكمة القضايا الخاصة بعد أن بيع منها خمسون ألف نسخة في نحو أربعة أشهر، وهي تصور بالتفصيل الدقيق كما قال هايمان: عشرين دوراً من أدوار العملية الجنسية يقوم بها أربع عاهرات...!!
    وهناك عدد لا يحصى ممن تفننوا في تصوير أعمال الدعارة والعهر مبررين ومسوغين، وأوقفوا حياتهم الأدبية لذلك، حيث الجمهور يتلهف لقراءتها والمنتجون يتسابقون لإخراجها مشاهد حية، ولا غرابة في أن أكثر الروايات الأدبية العالمية انتشاراً هي أكثرها إسفافاً ورذيلة.
    وهذا كله في نطاق الأدب الجاد أو الهادف الذي يعد جزءاً من التراث الحضاري البشري والذي تكتبه شخصيات أدبية مرموقة، وترصد له الجوائز والمسابقات الدولية والقومية، ويكتب له النقاد والمعلمون.
    أما ما يسمى أدب الجنس أو الأدب المكشوف الذي لا يصح أن يسمى أدباً بحال، فهو في كل العالم الغربي ملء السمع والبصر، يملأ الحوانيت، ويستنفذ الصحافة، ويسيطر على دور العرض السينمائي، ويستغرق أوقات الملايين من الناس، حتى الأطفال تكتب لهم مسلسلات جنسية وروايات جنسية ومسرحيات جنسية.
    ثانياً: الاتجاه الضائع:
    لم تستطع كل المذاهب الفكرية والفلسفات الاجتماعية أن تعطي الإنسان المعاصر -أو القرد حسب تعبير كامو- أي نوع من أنواع الثقة والاطمئنان.
    بل على العكس كان دورها الفعال ينحصر في اجتثاث موروثات الكنيسة الهشة، التي كانت رغم هشاشتها تقدم شيئاً من الاستقرار والثقة في المصير.
    وكانت العوامل النفسية والاجتماعية التي أشرنا إليها سلفاً تهدم كل أمل في الوصول إلى السعادة والإيمان بالقيم المجردة أياً كانت.
    وأمام العملاق الميكانيكى الرهيب وسيطرة الآلة الطاغية شعر الإنسان بأنه قد سحق وأن وجوده قد تضاءل إلى حد أدنى مما كان عليه وهو يواجه جبرية الكنيسة واضعاً مصيره بين يدي قدرها المحتوم.
    وهنا تحققت نبوءة شبنجلر وتكهنات أورويل عن مستقبل الجنس -أو القطيع- البشري، وأصبح مشكلة الإنسان العظمى في الحياة هي وجوده حياً،فالكلمة التي قالها أوغسطين: أصبحت أنا نفسي مشكلة بالنسبة لنفسي، لم تعد خاصة بـالفلاسفة بل باتت ترددها شفاه الفرد العادي من أجيال الضياع!
    ويتساءل الأديب المعاصر:
    هل لحياتنا معنى؟ ما هو؟ ما هو مكان الإنسان في العالم؟ هنا يظهر حالاً لماذا كانت الأغراض البلزاكية مطمئنة أنها تنتمي إلى عالم يكون الإنسان فيه سيداً وهذه الأغراض كانت أموالا وأملاكاً لا هم إلا امتلاكها والاحتفاظ بها...... وكانت ثمة هوية ثابتة بين هذه الأغراض ومالكها، صورة بسيطة هي في الوقت ميزة ووضعية اجتماعية، كان الإنسان سبب كل شيء مفتاح الكون وسيده الطبيعي بالحق الإلهي، أما اليوم فلم يبق الكثير من كل هذا.
    ومع ذلك فهو يتبجح قائلاً: ''إننا لا نؤمن أبداً بالمعاني الجامدة الجاهزة التي يقدمها النظام الإلهي القديم للإنسان وعلى أثره نظام القرن التاسع عشر العقلاني، ولكننا نضع كل أملنا في الإنسان، إن الأشكال التي خلقها هي التي تستطيع إعطاء العالم معنى'' وهذا هو دستور اللامعقول.
    إن الأدب المعاصر يرفض الإيمان بالمعاني المحددة والقيم الثابتة المجردة تبعاً لعدم إيمانه بهدف كوني ثابت، إنه لا يريد أن يؤمن بذلك الهدف سواء في صورة القدر بالشكل الذي تقرره لاهوتيات الكنيسة، أو في صورة المثال كما تخيله أفلاطون وفلاسفة الاغريق، ففي نظر أدباء الضياع ينبغي ألا يكون هنالك إرادة تسير الحياة الإنسانية على خطة مرسومة إلى هدف مقصود، كما أنه ليس هناك نموذج سامٍ يفوق الإدراك تكون الحياة الحسية انعكاسه وصورته الموازية له.
    والسبب الذي دفعهم لإنكار ذلك هو توهمهم أن الإيمان بشيء منه يتعارض مع ما زعموه حرية الإنسان من جهة، ومع ما يظهر في الكون من تناقض وتقلب تعجز عقولهم عن تفسيره من جهة أخرى.
    ولم يظل هذا الاعتقاد فكرة مجردة، بل بني عليه الدستور العلمي للفن الذي ينص على أن الفن للفن، يقول يعضهم تحت عنوان: الالتزام الوحيد الممكن للكاتب هو الأدب:
    ليس من الصواب الزعم أننا نخدم في رواياتنا قضية سياسية مهما كانت قضية تبدو لنا عادلة، وحتى لو كنا في حياتنا السياسية نحارب في سبيل انتصارها، إن الحياة السياسية تضطرنا دون انقطاع إلى افتراض معاني (كذا) معروفة: معاني تاريخية، معاني أخلاقية، إن الفن أكثر تواضعاً أو أكثر طموحاً، ففى نظره ليس هناك من شيء، معروف مسبقاً، وقبل العمل لا يوجد شيء، لا يقين ولا قضية ولا رسالة، فالظن أن عند الروائي شيئاً يريد أن يقوله، وأنه يبحث بعد ذلك كيف يقوله يمثل أخطر عمل مناقض للحقيقة.
    هذا الإحساس بالضياع وعدم الانتماء في عالم يعج بالمعضلات الحضارية والمآسي الإنسانية، جعل الرواية المعاصرة تتخذ بطلها من نوع آخر ملائم لاتجاهها، ويستطيع المرء أن يعد نوعية البطل مؤشراً حقيقياً لتحديد الانتماء الفني وتطوره، فالأدب الكلاسيكي كان بطله هو ما يدل عليه المعنى الأصلي لكلمة بطل، ثم حولت الرومانسية بطلها إلى العاشق أو الصوفي، أما بطل الرواية الواقعية فهو غالباً الشهواني أو المادي، وفي أدب الضياع المعاصر نجد أن البطل هو الصعلوك أو المتشرد، أو هو -إجمالاً- ذلك الإنسان الذي مصيره الخيبة والدمار.
  5. أمثلة من أدب الضياع


    تصور أزمة إنسان عادي كان يعيش حياة طبيعية كسائر الناس يفاجأ برجال شرطة غريبين يلقون القبض عليه ويحاول عبثاً أن يعرف السبب، ويحدث أن تحال قضيته إلى محكمة غريبة في أشخاصها وقانونها وبنائها، ويظل يترافع مدافعاً عن نفسه دون أن يعرف ماهية القضية، ويظل رهن الاعتقال إلا أنه اعتقال غير مألوف، فهو حر مأسور في آن واحد، يخضع للملاحقة والمتابعة في كل مكان، ويظل يشكو حاله لمعارفه وأصدقائه ويبحث عن محام قدير، لكنه يكتشف -يا للمصيبة- بأن معارفه كلهم أعضاء مجهولون في المحكمة الغريبة! حتى رجل الدين الذي لقيه صدفة في إحدى الكنائس، هو أيضاً عضو في المحكمة، وبعد فصول طويلة معقدة من المحاكمة ومع أنه لا يزال يجهل التهمة تنتهى حياة المتهم بأن يقتاده مجهولان ويغتالانه خارج البلدة، وكانت آخر كلمة قالها (مثل الكلب) يعني: نفسه.
    وتنتهى صفحات الرواية وفصول المحاكمة مبتورة، والموضوع لا يزال معلقاً فهي في الحقيقة لم تتم ولا يريد كافكا أن تتم!
    والقضية، في حقيقتها، هي قضية الوجود الإنساني على هذه الأرض، قضية الحياة ذاتها كما تبدو للإنسان اللامنتمي، فمن خلال رؤيته يبرز إلى الوجود دون سابق استشارة، ويظل رهن الحياة تتقاذفه أقدارها ويطويه الليل والنهار، وهو قابع في متاهة يلهث ويتحسر حتى يداهمه الفناء المحتوم، دون أن يعرف السر في وجوده والقضية التي لأجلها جاء ثم ذهب واضمحل!
    2- الشيخ والبحر "همنغواي":
    هنا يأتى اللامنتمى بنموذج آخر لتصوير المأساة الإنسانية وتجسيد المعضلة والمنعطف للحضارة البشرية، حيث تكون الكارثة والخسارة الفادحة هي النتيجة والثمرة من عمر طويل وخبرة كافية وصراع مرير في الأعماق!
    فالشيخ الصياد أفنى عمره في منازلة أقدار البحار، وقد توغل هذه المرة في أعماق المحيط لا تنقصه الخبرة ولا يعوزه السلاح، غير أنه يظل متشبثاً بإصرار مميت على أن تفوز شبكته بأكبر نصيب، وبعد معاناة قاسية ومغامرات مضنية يظفر بما يروي أحلامه، ويجنح بزورقه طالباً بر الأمان، لكنه يفاجأ بعقبات ومهاجمات شتى تجعل الاحتفاظ بالصيد أعظم مخاطرة من الحصول عليه، وينفذ زاده وتتحطم بقايا سلاحه وتخور قواه والتماسيح والقرشان العظيمة لا تكف غاراتها الشرسة على زورقه، وأخيراً وبعد جهد جهيد وجراح بالغة يصل إلى الشاطئ وليس لديه من الصيد الثمين إلا هيكله العظمي في حين قد فقد كل شيء!!
    وكما صور همنغواي أزمة الحضارة البشرية وأزمته الشخصية فقد تقمص شخصية الشيخ الخاسر، وآثر أن يغادر الحياة بعد أن ظهرت له أعراض الكارثة، ولم يجد وسيلة إلا أن يبادرها بالانتحار.
    3- الساعة الخامسة والعشرون:
    رواية طويلة ألفها الكاتب الروماني كونستانتان جيورجيو وهي من أعظم الأعمال الأدبية التي تناولت بالتحليل المستفيض والتصوير الدقيق مأساة الضياع المتمثل في انهيار الحضارة الغربية وسحق إنسانية الإنسان، يقول فيها:
    إنني أشعر أن حدثاً خطيراً قد وقع حولنا، إنني أجهل أين انفجر ومتى بدأ وكم يدوم؟ لكنني أشعر بوجوده، لقد أخذنا في الدوامة ولسوف تمزق هذه الدوامة جلودنا وتحطم عظامنا الواحد تلو الآخر، إنني أشعر بهذا الحدث الهائل شعوراً لا يضاهيه إلا إحساس الجرذان المسبق الذي يدعوهم إلى هجر مركب على وشك الغرق، لن يكون لنا أي مأوى في أي مكان في العالم.
    ويصور جورجيو سبب المأساة بأن التقدم الآلي المجرد من القيم وتفوق الآلة الطاغي على الإنسان وذبول إنسانيته أمامها، كل هذا سيفضي بالمجتمع البشري إلى نهاية مرعبة، إذ يظهر سلالات من نوع خاص لا هي بشرية ولا هي آلية، أسماها المؤلف الرقيق التكني وبحكم كثرة الرقيق التكني، فإنه سوف يثور للسيطرة على العالم وسينتصر فعلاً، ويعود البشر الحقيقيون أقلية ضئيلة على الأرض:
    المجتمع الحديث الذي يحوي على رجل واحد مقابل كل ثلاثين عبداً تكنياً، ينبغي أن ينظم وأن يعمل حسب النظم التكنية لأنه مجتمع خلق وبني على احتياجات ميكانيكية وليست إنسانية، وهنا تبدأ الفاجعة (!!) إن المخلوقات البشرية مرغمة على الحياة والتصرف وفق قوانين تكنية غريبة عن القوانين الإنسانية.
    وعندما يثور العبيد الآليون فماذا ستكون النتيجة؟
    إن هذه الثورة ستحدث على سطح الأرض كلها، ولن نستطيع الاختفاء لا في الغابات ولا في الجزر ولا في أي مكان، لن تستطيع أمة في العالم أن تحمينا (!!) سوف تشكل جيوش العالم كله من مأجورين يناضلون ويكافحون من أجل تدعيم المجتمع الآلي الذي لن تعيش فيه الفردية، ولعل هذا العصر هو الفترة الأكثر ظلمة في تاريخ البشرية، إذ لم يحدث لحد الآن أن احتقر الإنسان إلى هذا الحد.
    والحياة البشرية لم تعد لها قيمة إلا بوصفها مصدر حركة، والقياسات أضحت علمية محضة، وهذا هو قانون بربريتنا الآلية المظلمة ولسوف نصبح بعد النصر الكلي عبيداً آليين.
    ثم يتحدث المؤلف عن سلالة المواطنين في الشرق والغرب، في أمريكا وروسيا في ظل الشيوعية والديمقراطية على حد سواء فيقول: ''إن الانسان لم يستطع السيطرة على كل الحيوانات المفترسة، غير أن حيواناً جديداً ظهر على سطح الأرض في الآونة الأخيرة، وهذا الحيوان الجديد اسمه المواطنون، إنهم لا يعيشون في الغابات ولا في الأدغال ولكن في المكاتب، ومع ذلك فإنهم أشد قسوة ووحشية من الحيوانات المتوحشة في الأدغال، لقد ولدوا من اتحاد الرجل مع الآلات، إنهم نوع من أبناء السفاح (!!) وهم أقوى الأصول والأجناس الموجودة الآن على سطح الأرض، إن وجههم يشبه وجه الرجل، بل إن المرء غالباً ما يخلط بينهم، ولكن لا يلبث المرء حتى يدرك بعد حين أنهم لا يتصرفون كما يتصرف الرجال بل كما تتصرف الآلات، إن لهم مقاييس وأجهزة تشبه الساعات بدلاً من القلوب وأدمغتهم نوع من الآلة، فهم بين الآلة والإنسان، ليسوا من هذه ولا ذاك، إن لهم رغبات الوحوش الضارية مع أنهم ليسوا وحوشاً ضارية بل إنهم مواطنون... إنها سلالة اكتسحت الأرض'' .
    والنتيجة التي يستخلصها المؤلف من وجود هذه السلالة هي: أن كلمة مواطن لم تعد مرادفة لمعنى إنسان
    ويتعرض المؤلف في روايته الطويلة لضروب الإفلاس والضياع التي ستمنى بها البشرية في كل ناحية، في الاجتماع والسياسة، في الإبداع والشعر في الإنسانية. في كل شيء، ويقول: ''إن كل ما تستطيع الحضارة تقديمه للإنسان: الأصفاد'' .
    وينبغي أن نشير هنا إلى عدة أعمال فنية في الاتجاه نفسه لا تقل عما ذكرنا: قلعة أكسل لـأدموند ولسن، البحث عن الزمن الضائع لـبروست، والعالم الطريف آلدوس هكسلي وكوكب القردة لـبيريل بيل ورحلة في دنيا المستقبل لـويلز.
    وعلى مستوى المسرحية تجد البيت المحطم للقلب، وهي إحدى مسرحيات شو ويعرض فيها إفلاس حضارتنا الحديثة كما تجلَّى عقب الحرب الكبرى.
    أما الشعر فيلمع اسم إيليوت وقصيدته اليباب أو الأرض القفر (the waste land) وقد كان لهذه القصيدة أثر كبير في الشعر الحديث، وهى تصور مشكلة الإنسان المعاصر الذي يبدو للشاعر تافهاً مشلول القوة محطم الإرادة يعيش في عالم يستحق الفناء.
  6. نماذج من مدارس الضياع

    1- الوجودية:
    ليست الوجودية - كما حددها سارتر في الوجودية مذهب إنساني سوى صورة من صور الضياع، وحتى إن صدقنا زعمها أنها ثورة الإنسانية ضد كل ما هو لا إنساني فهي ليست إلا ثورة سلبية يائسة، لم تستطع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء، وكل ما تستطيع أن تقول بصدق إنها قدمته للإنسانية هو عرض وإبراز بعض جوانب المأساة البشرية، تلك المأساة التي تعبر عنها جملة واحدة (البحث عن الإله) فهي ترفض الإيمان بالله كما تصوره الأديان ولكنها لا تجد البديل، والإنسان الذي تحاول تأليهه محصور مقهور أمام القدر الكوني وأمام سيطرة الآلة وأمام وضعه التاريخي المحدد، وحول إيجاد مخرج من هذا التناقض تأتي الفلسفات الوجودية بشعارات شتى، كالحرية عند سارتر والعبث عند البير كامو.
    وما دامت الوجودية أولاً وأخيراً تعبيراً عن الضياع والإفلاس، فلنأخذ أحد أبطال البير كامو نموذجاً للإنسان الوجودي المتمثل في كامو نفسه: ''إننى لأفكر أحياناً بما سيقوله عنا مؤرخو المستقبل، فعبارة واحدة تكفي لوصف الإنسان الحديث، كان يجامع ويقرأ الصحف، وبعد هذا التعريف لن يكون ثمة مجال لمزيد من البحث''، ''كان وجودي يتألف من الجسد بصورة خاصة، وهذا يفسر توافقي الداخلي وتلك السهولة في تصرفاتي التي كان الناس يشعرون بها....''
    كن واثقاً من أنني أتصرف بسهولة في كل شيء ولكنني في الوقت نفسه لم أكن لأقنع بشيء، كانت كل غبطة تجعلني أشتهي أخرى، وقد تنقلت من بهجة إلى بهجة، وكنت في بعض المناسبات أرقص ليالي كاملة ويزيد جنوني أكثر فأكثر بالناس والحياة، وفي بعض الأحيان حين يتأخر الوقت على تلك الليالي وحين يملؤني الرقص والنشوة الخفيفة وحماستي الوحشية وانطلاق الجميع بعنف بنشوة ذاهلة تعني، كان يلوح لي في اللحظة التي أكون فيها منهوكاً وبسرعة البرق، أنني كنت أفهم سر المخلوقات والعالم، ولكن التعب كان يختفي في اليوم التالي ويختفى معه السر وأعود إلى الاندفاع من جديد.
    والمرء حين يكون صاحياً مزوداً بالقليل من المعرفة الذاتية، غير قادر على العثور على سبب واحد لإسباغ الخلود على هذا القرد الشهواني (يعني: نفسه) عليه أن يبحث عن بديل لذلك الخلود، ولأنني كنت أحن إلى الحياة الأبدية، كنت أذهب إلى الفراش مع البغايا وأشرب الخمر ليالي بكاملها.
    آه يا عزيزي، إن عبء الأيام مخيف بالنسبة لمن هو وحيد بدون إله، بدون سيد، ولهذا يجب على المرء أن يختار سيداً، إلهاً بدون مميزاته المألوفة، ثم إن تلك الكلمة قد فقدت معناها ولم تعد تستحق أن يجازف المرء بصدم أحد بها.
    2- الرمزية:
    مدرسة ظهرت أصلا في القرن التاسع عشر رد فعل للنزعة الميكانيكية التي ادعت الإحاطة بفهم الكون وتفسيره عن طريق العقل والعلم، وأنكرت كل ما يندرج تحت سلطة المنطق وإدراك الحواس، إذ اعتقد الرمزيون أن تلك النزعة قاصرة عن تفسير الواقع فضلاً عن العوالم المجهولة في الكون والنفس، وحملهم ذلك إلى الشعور بأن وراء الإمكان الإيجابي سراً لم يكشف ومجهولاً لم يستكنه، وإلى جانب هذه النزعة إلى المجهول أدلى علم السكيولوجيا بأن في الإنسان حالتين: واعية ويدركها العقل والإيجاب، وغير واعية قصر العقل عنها، وقد تكون هذه الزاوية في الإنسان هي الحقيقة، وقد يكون الواقع الموضوعي سراباً... على هذا الأساس قام الأدب الرمزى محاولاً تطويع اللغة والأحداث للتعبير عن الحقائق المجهولة التي تلح الفطرة عليها بينما هي -في نظرهم- ستظل مجهولة إلى الأبد ولا وسيلة قط إلى تقريبها إلا هذا الأسلوب، ومن أشهر زعمائها بودلير ورامبو.
    3- السريالية:
    مدرسة حديثة تهتم أكثر بالشعر والرسم، تبتدئ من الخط الذي تبتدئ منه الوجودية، ولكنها تفترق عنها في الإيغال في اللامعقول والإعراض عن الخوض في حقائق التاريخ والمشادات الفكرية والبحث المنطقي فيما يفوق الإدراك إلى الخوض في أعماق المجهول بلا موضوعية.
    والأصل في هذه الحركة هو نظرية فرويد عن العقل الباطن، فـالسريالية تريد أن تجعل من العقل الباطن الحقيقة النفسية بالذات، وتحول الفن إلى كتابة آلية لإيضاحه.
    ولم يكن مطمعها الأول أن تؤسس نزعة إنسانية جديدة، أي: أن تعطي العالم تلاحماً (إتجاهاً)، لقد كانت على العكس تعارض كل تلاحم بحالة سخط لتغيير الحياة وبلوغ ما فوق الواقع الذي يلغي التناقضات التي مزقت الإنسان: واعٍ ولا واعٍ، أنا وعالم، طبيعي وما فوق الطبيعي (كذا).
    أشهر شعرائها بريتون وأراغوان، وقد حدد بريتون الطريق الوحيد للبحث عن المطلق بأنه: إملاء الفكرة في غياب كل رقابة يمارسها العقل.
    4- أدب التفسخ:
    نوع من أدب الضياع يميل إلى التشاؤم والابتذال، ويتميز بأن أبطاله هم نوع من الكائنات التي فقدت الثقة بنفسها وبمستقبلها، والتي لا تؤمن أبداً بإمكان قيامها اليوم بحياة إنسانية.
    وقد جعل روائيوه عملهم في الوسوسة الفيزيولوجية واستغلال بؤس البهيمة البشرية، كأنهم جعلوا شعارهم شعار أبطال ريمون: غير أن ليست الخليقة شيئاً إلا بالأحشاء التي تقودها، كأنه لا يوجد على الأرض شيء يرتاد أجمل من أمعاء إنسانية كلها حيوانية ومن بالوعات المدن الكبرى!!
    5- أدب المستحيل:
    اتجاه حديث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية متأثراً بفظائعها، ترتكز فلسفته على الإلحاد القانط واعتقاد أن الإنسان هو ميت مؤجل بحيث لا يهتم أحد بإنقاذه.
    يقول معجم الأدب المعاصر:
    والمستحيل وأساطيره لم تسيطر عبثاً منذ عشرين سنة (أي:1945) على أدب قد نما تحت لواء الدعوى فإذا كان كتاب كامو هو الكتاب المفتاح لعام 1947 فلأنه كان يحمل آنذاك، تلك الفكرة القائلة: أن كل مجتمع في هذه الأيام يحمل جحيمه في نفسه، وأن كل مدينة يمكن أن تموت بالطاعون، إن أجيال ما بعد الحرب لا تزال تبدو تحت ضرب عاقبة جرح السنوات الأربعين، ما فائدة الصراع والصلاة والتأمل والإيمان؟! فالعالم الذي تتعذب فيه الناس ويموتون هو نفسه العالم الذي يتعذب فيه النمال وتموت، عالم طاغ وغير مفهوم.
    عشرون سنة ودخان هيروشيما يعلمنا أن العالم ليس جدياً ولا دائم البقاء - إن ملاحظة روجيه نيميه هذه قد أبداها جيل بكامله جيل أبناء المستحيل.
    6- الأدب العدمي:
    نوع آخر أكثر تشاؤماً وقنوطاً، إنتاجه هو عبارة عن ذلك العمل المؤلم الذي يصرخ بصوت عال في كل صرخة من صرخاته المبتورة إن الإنسان قد مات، وحيث ما من شيء ولا شخص ولا لغة على الخصوص تستطيع إغاثة ذرة الوجود تلك التي انكمشت في استحالتها الأساسية، وتعلن أنها تنتمى إلى العدم وأنها ستعود إليه وإلى الأبد، وأنها لا تتخيل نهاية أخرى سوى نهاية القذارة التي تنتظر صيد الماء؟
    7- أدب الهروب والحلم:
    صورة أخرى من صور الضياع يقول عنها المصدر السابق:
    إنه أدب لا يرفض أخلاق وغيبية أبائنا فقط، ولكنه يرفض الحقيقة النفسية وواقعية ملاحظته، يرفض فهم الأجهزة الآلية للروح؛ لأنه ليس هناك إيمان بعمل النفس يراد التقاط الحياة في منبعها والجثوم مباشرة على الزخم الحيوي وإمساك جذور الوجود المعقدة، إنها صوفية بدون إله.
    أشهر رواده بلانشو وباتاي والأخير: كان يحلم بشعر ينكر الطبيعة وبمطلق يستغني عن القيم.
    هذا وهناك مدارس واتجاهات أخرى كـالتكعيبية والمستقبلية... إلخ، لا تختلف في جوهرها عما سلف.